الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
الحمد للّه وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. قال السائل: الحمد للّه رب العالمين. يا متقناً علم الحديث ومن روى ** أصبحت في الإسلام طَوْدًا راسخًا هذي مسائــل أشكلت فتصدقوا ** فالمستعان على الأمـــور بأهلهـا ولكــم كأجــر العاملـين بسـنته ** سـنن النبـي المصطفـــي المختــار يهدي بــه وعــددت فــي الأحبـار** ببيانها يـــا ناقلي الأخبــار ! إن أشكلت قـــد جاء في الآثار ** حين سئلتمو يا أولي الأبصار
/الأولي: ما حَدُّ الحديث النبوي؟ أهو ما قاله في عمره، أو بعد البعثة أو تشريعًا؟ الثانية: ما حد الحديث الواحد؟ وهل هو كالسورة، أو كالآية، أو كالجملة؟ الثالثة: إذا صح الحديث، هل يلزم أن يكون صدقا، أم لا؟ الرابعة: تقسيم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف تسمية صحيحة، أو متداخلة؟ الخامسة: ما الحديث المكرر المعاد بغير لفظه ومعناه من غير زيادة ولا نقص؟ وهل هو كالقصص المكررة في القرآن العظيم؟ السادسة: كم في صحيح البخاري حديث بالمكرر؟ وكم دونه؟ وكم في مسلم حديث به، ودونه؟ وعلى كم حديث اتفقا؟ وبكم انفرد كل واحد منهما عن الآخر؟ فأجاب شيخ الإسلام أبو العباس بن تيمية ـ رحمه اللّه: الحمد للّه رب العالمين، الحديث النبوي هو عند الإطلاق ينصرف/ إلى ما حُدِّث به عنه بعد النبوة: من قوله وفعله وإقراره، فإن سنته ثبتت من هذه الوجوه الثلاثة. فما قاله إن كان خبرًا وجب تصديقه به، وإن كان تشريعًا إيجابًا أو تحريمًا أو إباحة وجب اتباعه فيه، فإن الآيات الدالة على نبوة الأنبياء دلت على أنهم معصومون فيما يخبرون به عن اللّه - عز وجل، فلا يكون خبرهم إلا حقًا، وهذا معني النبوة، وهو يتضمن أن اللّه ينبئه بالغيب وأنه ينبئ الناس بالغيب، والرسول مأمور بدعوة الخلق وتبليغهم رسالات ربه. ولهذا كان كل رسول نبيًا، وليس كل نبي رسولا، وإن كان قد يوصف بالإرسال المقيد في مثل قوله: وقد روي أن عبد اللّه بن عمرو كان يكتب ما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له بعض الناس: إن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يتكلم في الغضب فلا تكتب كل ما تسمع،فسأل النبي صلى الله عليه وسلم/ عن ذلك فقال: (اكتب، فوالذي نفسي بيده، ما خرج من بينهما إلا حق) يعني: شفتيه الكريمتين. وقد ثبت عن أبي هريرة أنه قال: لم يكن أحد من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أحفظ مني إلا عبد اللّه بن عمرو، فإنه كان يكتب بيده، ويَعِي بقلبه، وكنت أعي بقلبي ولا أكتب بيدي، وكان عند آل عبد اللّه بن عمرو بن العاص نسخة كتبها عن النبي صلى الله عليه وسلم. وبهذا طعن بعض الناس في حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه شعيب، عن جده، وقالوا: هي نسخة ـ وشعيب هو: شعيب بن محمد بن عبد اللّه بن عمرو بن العاص ـ وقالوا عن جده الأدني محمد: فهو مرسل؛ فإنه لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وإن عني جده الأعلى فهو منقطع؛ فإن شعيبًا لم يدركه. وأما أئمة الإسلام وجمهور العلماء، فيحتجون بحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده إذا صح النقل إليه، مثل: مالك بن أنس وسفيان بن عيينة ونحوهما، ومثل: الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وغيرهم، قالوا: الجد هو عبد اللّه؛ فإنه يجيء مسمي ومحمد أدركه، قالوا: وإذا كانت نسخة مكتوبة من عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان هذا أَوْكد لها وأدل على صحتها؛ ولهذا كان في نسخة عمرو بن شعيب/من الأحاديث الفقهية التي فيها مقدرات ما احتاج إليه عامة علماء الإسلام. والمقصود أن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أطلق دخل فيه ذكر ما قاله بعد النبوة، وذكر ما فعله؛ فإن أفعاله التي أقر عليها حجة، لا سيما إذا أمرنا أن نتبعها كقوله: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، وقوله: (لتأخذوا عني مناسككم)، وكذلك ما أحله اللّه له فهو حلال للأمة مالم يقم دليل التخصيص؛ ولهذا قال: ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سئل عن الفعل يذكر للسائل أنه يفعله؛ ليبين للسائل أنه مباح، وكان إذا قيل له: قد غفر اللّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال: (إني أخشاكم للّه وأعلمكم بحدوده). ومما يدخل في مسمي حديثه: ما كان يُقِرُّهم عليه، مثل: إقراره على المضاربة التي كانوا يعتادونها، وإقراره لعائشة على اللعب بالبنات، وإقراره في الأعياد على مثل غناء الجاريتين، ومثل لعب الحبشة بالحِرَاب في المسجد ونحو ذلك، وإقراره لهم على أكل الضب على مائدته، وإن/كان قد صح عنه أنه ليس بحرام. إلى أمثال ذلك، فهذا كله يدخل في مسمي الحديث، وهو المقصود بعلم الحديث؛ فإنه إنما يطلب ما يستدل به على الدين، وذلك إنما يكون بقوله أو فعله أو إقراره. وقد يدخل فيها بعض أخباره قبل النبوة وبعض سيرته قبل النبوة، مثل: تَحنُّثِه بغار حراء، ومثل: حسن سيرته؛ لأن الحال يستفاد منه ما كان عليه قبل النبوة: من كرائم الأخلاق ومحاسن الأفعال، كقول خديجة له: كلا واللّه لا يخزيك اللّه أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلَّ، وتقْرِي الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق، ومثل: المعرفة، فإنه كان أميًا لا يكتب ولا يقرأ، وأنه لم يجمع متعلم مثله وإن كان معروفا بالصدق والأمانة، وأمثال ذلك مما يستدل به على أحواله التي تنفع في المعرفة بنبوته وصدقه، فهذه الأمور ينتفع بها في دلائل النبوة كثيرًا. ولهذا يذكر مثل ذلك من كتب سيرته، كما يذكر فيها نسبه وأقاربه وغير ذلك بما يعلم أحواله. وهذا أيضًا قد يدخل في مسمي الحديث. والكتب التي فيها أخباره منها كتب التفسير، ومنها كتب السيرة والمغازي، ومنها كتب الحديث. وكتب الحديث هي ما كان بعد النبوة أخص، وإن كان فيها أمور جرت قبل النبوة، فإن تلك لا تذكر لتؤخذ وتشرع فعله قبل النبوة، بل قد أجمع المسلمون على أن الذي /فرض على عباده الإيمان به والعمل هو ما جاء به بعد النبوة. ولهذا كان عندهم من ترك الجمعة والجماعة، وتخلي في الغِيرَان والجبال،حيث لا جمعة ولا جماعة، وزعم أنه يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم لكونه كان متحنثًا في غار حراء قبل النبوة في ترك ما شرع له من العبادات الشرعية التي أمر اللّه بها رسوله، واقتدي بما كان يفعل قبل النبوة كان مخطئًا؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم ـ بعد أن أكرمه اللّه بالنبوة ـ لم يكن يفعل ما فعله قبل ذلك من التحنث في غار حراء أو نحو ذلك، وقد أقام بمكة بعد النبوة بضع عشرة سنة، وأتاها بعد الهجرة في عمرة القضية، وفي غزوة الفتح، وفي عمرة الجعرانة، ولم يقصد غار حراء، وكذلك أصحابه من بعده لم يكن أحد منهم يأتي غار حراء، ولا يتخلون عن الجمعة والجماعة في الأماكن المنقطعة، ولا عمل أحد منهم خلوة أربعينية كما يفعله بعض المتأخرين، بل كانوا يعبدون اللّه بالعبادات الشرعية التي شرعها لهم النبي صلى الله عليه وسلم، الذي فرض اللّه عليهم الإيمان به واتباعه؛ مثل: الصلوات الخمس وغيرها من الصلوات، ومثل: الصيام والاعتكاف في المساجد، ومثل: أنواع الأذكار والأدعية والقراءة، ومثل: الجهاد. وقول السائل: ماقاله في عمره أو بعد النبوة أو تشريعًا، فكل ما قاله بعد النبوة وأقر عليه ولم ينسخ فهو تشريع، لكن التشريع/يتضمن الإيجاب والتحريم والإباحة، ويدخل في ذلك ما دل عليه من المنافع في الطب؛ فإنه يتضمن إباحة ذلك الدواء والانتفاع به، فهو شرع لإباحته، وقد يكون شرعا لاستحبابه؛ فإن الناس قد تنازعوا في التداوي هل هو مباح أو مستحب أو واجب؟ والتحقيق أن منه ما هو محرم، ومنه ما هو مكروه، ومنه ماهو مباح؛ ومنه ماهو مستحب، وقد يكون منه ما هو واجب، وهو ما يعلم أنه يحصل به بقاء النفس لا بغيره، كما يجب أكل الميتة عند الضرورة، فإنه واجب عند الأئمة الأربعة وجمهور العلماء، وقد قال مسروق: من اضطر إلى أكل الميتة فلم يأكل حتى مات دخل النار، فقد يحصل أحيانًا للإنسان إذا اسْتَحَرَّ المرض ما إن لم يتعالج معه مات، والعلاج المعتاد تحصل معه الحياة كالتغذية للضعيف، وكاستخراج الدم أحيانًا. والمقصود أن جميع أقواله يستفاد منها شرع، وهو صلى الله عليه وسلم لما رآهم يلقِّحُون النخل قال لهم: (ما أري هذا ـ يعني شيئا ـ) ثم قال لهم: (إنما ظننت ظنًا فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن اللّه فلن أكذب على اللّه)،وقال: (أنتم أعلم بأمور دنياكم، فما كان من أمر دينكم فإلي) وهو لم ينههم عن التلقيح، لكن هم غلطوا في ظنهم أنه نهاهم، كما غلط من غلط في ظنه أن{الْخَيْطُ الأَبْيَضُ} و{الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} [البقرة: 187] ، هو الحبل الأبيض والأسود. وأما الحديث الواحد، فيراد به ما رواه الصاحب من الكلام المتصل بعضه ببعض ولو كان جملا كثيرة، مثل: حديث توبة كعب بن مالك، وحديث بدء الوحي، وحديث الإفك، ونحو ذلك من الأحاديث الطوال؛ فإن الواحد منها يسمي حديثًا، وما رواه الصاحب أيضًا من جملة واحدة أو جملتين أو أكثر من ذلك، متصلا بعضه ببعض؛ فإنه يسمي حديثًا، كقوله: (لا صلاة إلا بأم القرآن)(الجار أحق بسَقَبِه)، (لا يقبل اللّه صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)، وقوله: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ مانوي) إلى آخره، فإنه يمسي حديثًا. وكذلك قوله: (لا تقاطعوا ولا تدابروا، ولا تباغضوا ولا تحاسدوا، وكونوا عباد اللّه إخوانا)، وقوله في البحر: (هو الطهور ماؤه، الحل ميتَتُه)، وقد أكمل من أجناس مختلفة، لكن في الأمر العام تكون مشتركة في معني عام، كقوله: (لا يخطب الرجل على خطبة أخيه، ولا يَبِع على بيع أخيه، ولا يَسْتَام على سَوْمِ أخيه، ولا/تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ مافي صَحْفتها ولتنكح، فإن لها ما قدر لها) فإن هذا يتضمن النهي عن مزاحمة المسلم في البيع والنكاح، وفي البيع لا يستام على سومه، ولا يبيع على بيعه، وإذا نهاه عن السوم فنهيه المشتري على شرائه عليه حرام بطريق الأولي، ونهاه أن يخطب على خطبته. وهذا نهي عن إخراج امرأته من ملكه بطريق الأولي، ونهي المرأة أن تسأل طلاق أختها لتنفرد هي بالزوج، فهذه وإن تعلقت بالبيع والنكاح فقد اشتركت في معني عام. وكذلك قوله: (ثلاثة لا يكلمهم اللّه، ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم، ولهم عذاب اليم: شيخ زانٍ، وملك كذاب، وعائل مستكبر)، فهؤلاء الثلاثة اشتركوا في هذا الوعيد، واشتركوا في فعل هذه الذنوب مع ضعف دواعيهم؛ فإن داعية الزنا في الشيخ ضعيفة، وكذلك داعية الكذب في الملك ضعيفة؛ لاستغنائه عنه، وكذلك داعية الكِبْر في الفقير، فإذا أتوا بهذه الذنوب مع ضعف الداعي دل على أن في نفوسهم من الشر الذي يستحقون به من الوعيد ما لا يستحقه غيرهم. وقَلَّ أن يشتمل الحديث الواحد على جمل إلا لتناسب بينهما، وإن كان قد يخفي التناسب في بعضها على بعض الناس، فالكلام المتصل بعضه ببعض يسمي حديثًا واحدًا. /وأما إذا روي الصاحب كلاما فرغ منه، ثم روي كلامًا آخر وفصل بينهما بأن قال: وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، أو بأن طال الفصل بينهما، فهذان حديثان، وهذا بمنزلة ما يتصل بالكلام في الإنسان والإقرارات والشهادات، كما يتصل بعقد النكاح والبيع والإقرار والوقف. فإذا اتصل به الاتصال المعتاد كان شيئًا واحدًا يرتبط بعضه بعض، وانقضي كلامه، ثم بعد طول الفصل أنشأ كلامًا آخر بغير حكم الأول، كان كلامًا ثانيًا، فالحديث الواحد ليس كالجملة الواحدة؛ إذ قد يكون جملا، ولا كالسورة الواحدة؛ فإن السورة قد يكون بعضها نزل قبل بعض أو بعد بعض، ويكون أجنبيًا منه، بل يشبه الآية الواحدة أو الآيات المتصل بعضها ببعض، كما أنزل في أول البقرة أربع آيات في صفة المؤمنين، وآيتين في صفة الكافرين، وبضع عشرة آية في صفة المنافقين؛ وكما في قوله: وقد يسمي الحديث واحدًا، وإن اشتمل على قصص متعددة، إذا حَدَّث به الصحابي متصـلًا بعضـه ببعض، فيكون واحـدًا باعتبار اتصاله في كلام الصحابي، مثـل حـديث جـابر الطويل الذي يقول فيه: (كنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم) وذكر فيه ما يتعلق بمعجزاته، وما /يتعلق بالصلاة، وبغير ذلك، فهذا يسمي حديثًا بهذا الاعتبار، وقد يكون الحديث طويلا، وأخذ يفرقه بعض الرواة فجعله أحاديث، كما فعل البخاري في كتاب أبي بكر في الصدقة، وهذا يجوز إذا لم يكن في ذلك تغيير المعني. وأما قول السائل: إذا صح الحديث هل يكون صدقا؟ فجوابه: أن الصحيح أنـواع، وكونه صدقا يعني به شيئان: فمن الصحيح ما تواتر لفظـه؛ كقـوله: (مـن كـذب على متعمـدًا، فليتبوأ مقعده من النار). ومنه ما تواتر معناه؛ كأحـاديث الشفاعـة، وأحاديث الرؤية، وأحاديث الحوض، وأحاديث نبع الماء من بين أصابعه وغير ذلك. فهذا يفيد العلم ويجزم بأنه صدق؛ لأنه متواتر؛ إما لفظًا وإما معني. ومن الحديث الصحيح ما تلقاه المسلمون بالقبول فعملوا به، كما عملوا بحديث الغرة في الجنين، وكما عملوا بأحاديث الشفعة، وأحاديث سجود السهو، ونحو ذلك. فهذا يفيد العلم، ويجزم بأنه صدق؛ لأن الأمة تلقته بالقبول تصديقًا وعملًا بموجبه، والأمة لا تجتمع على ضلالة. فلو كان في نفس الأمر كذبًا لكانت الأمة قد اتفقت على تصديق الكذب والعمل /به، وهذا لا يجوز عليها. ومـن الصحيح مـا تلقاه بالقبول والتصديق أهل العلم بالحديث؛ كجمهور أحاديث البخاري ومسلم؛ فان جميع أهل العلم بالحديث يجزمون بصحة جمهور أحاديث الكتابين، وسائـر الناس تَبَعٌ لهم في معرفـة الحـديث، فإجماع أهـل العـلم بالحديث على أن هذا الخبر صـدق كإجماع الفقـهاء على أن هـذا الفعل حلال أو حرام أو واجب، وإذا أجمع أهل العلم على شيء فسائر الأمة تبع لهم؛ فإجماعهم معصوم لا يجوز أن يجمعوا على خطأ. ومما قد يسمي صحيحًا ما يصححه بعض علماء الحديث، وآخرون يخالفونهم في تصحيحه، فيقولون: هو ضعيف ليس بصحيح، مثل ألفاظ رواها مسلم في صحيحه، ونازعه في صحتها غيره من أهل العلم، إما مثله أو دونه أو فوقه،فهذا لا يجزم بصدقه إلا بدليل، مثل: حديث ابن وعلة عن ابن عباس أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: (أيما إهاب دبغ فقد طهر) فإن هذا انفرد به مسلم عن البخاري، وقد ضعفه الإمام أحمد وغيره، وقد رواه مسلم، ومثل ما روي مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الكسوف ثلاث ركوعات وأربع ركوعات، انفرد بذلك عن البخاري، فإن هذا ضَعَّفه حُذَّاقُ أهل العلم، وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل الكسوف إلا مرة واحدة يوم مات ابنه إبراهيم، وفي نفس هذه الأحاديث التي فيها الصلاة بثلاث ركوعات/وأربع ركوعات، أنه إنما صلى ذلك يوم مات إبراهيم، ومعلوم أن إبراهيم لم يمت مرتين ولا كان له إبراهيمان، وقد تواتر عنه أنه صلى الكسوف يومئذ ركوعين في كل ركعة، كما روي ذلك عنه عائشة وابن عباس وابن عمرو وغيرهم؛ فلهذا لم يَرْوِ البخاري إلا هذه الأحاديث وهو أحذق من مسلم؛ ولهذا ضعف الشافعي وغيره أحاديث الثلاثة والأربعة ولم يستحبوا ذلك، وهذا أصح الروايتين عن أحمد، وروي عنه أنه كان يجوز ذلك قبل أن يتبين له ضعف هذه الأحاديث. ومثله حديث مسلم: (إن اللّه خلق التربة يوم السبت، وخلق الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الإثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم يوم الجمعة)، فإن هذا طعن فيه من هو أعلم من مسلم مثل: يحيي بن معين ومثل البخاري وغيرهما، وذكر البخاري أن هذا من كلام كعب الأحبار، وطائفة اعتبرت صحته مثل أبي بكر بن الأنباري وأبي الفرج بن الجوزي وغيرهما، والبيهقي وغيره وافقوا الذين ضعفوه، وهذا هو الصواب؛ لأنه قد ثبت بالتواتر أن اللّه خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، وثبت أن آخر الخلق كان يوم الجمعة، فيلزم أن يكون أول الخلق يوم الأحد، وهكذا هو عند أهل الكتاب، وعلى ذلك تدل أسماء الأيام، وهذا هو المنقول الثابت في أحاديث وآثار أخر./ولو كان أول الخلق يوم السبت وآخره يوم الجمعة لكان قد خلق في الأيام السبعة، وهو خلاف ما أخبر به القرآن، مع أن حذاق أهل الحديث يثبتون علة هذا الحديث من غير هذه الجهة، وأن رواية فلان غلط فيه لأمور يذكرونها، وهذا الذي يسمي معرفة علل الحديث بكون الحديث إسناده في الظاهر جيدا، ولكن عرف من طريق آخر أن راويه غلط فرفعه وهو موقوف، أو أسنده وهو مرسل، أو دخل عليه حديث في حديث، وهذا فن شريف، وكان يحيي بن سعيد الأنصاري ثم صاحبه على بن المديني ثم البخاري من أعلم الناس به، وكذلك الإمام أحمد وأبو حاتم وكذلك النسائي والدارقطني وغيرهم. وفيه مصنفات معروفة. وفي البخاري ـ نفسه ـ ثلاثة أحاديث نازعه بعض الناس في صحتها مثل: حديث أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عن الحسن: (إن ابني هذا سيد وسيصلح اللّه به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)، فقد نازعه طائفة منهم أبو الوليد الباجي، وزعموا أن الحسن لم يسمعه من أبي بكرة، لكن الصواب مع البخاري وأن الحسن سمعه من أبي بكرة، كما قد بين ذلك في غير هذا الموضع، وقد ثبت ذلك في غير هذا الموضع. والبخاري أحذق وأخبر بهذا الفن من مسلم؛ ولهذا لا يتفقان على/حديث إلا يكون صحيحا لا ريب فيه قد اتفق أهل العلم على صحته ثم ينفرد مسلم فيه بألفاظ يعرض عنها البخاري، ويقول بعض أهل الحديث إنها ضعيفة، ثم قد يكون الصواب مع من ضعفها، كمثل صلاة الكسوف بثلاث ركوعات وأربع، وقد يكون الصواب مع مسلم، وهذا أكثر، مثل قوله في حديث أبي موسي: (إنما جعل الإمام لِيُؤتَمَّ به فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا) فإن هذه الزيادة صحَّحها مسلم، وقبله أحمد بن حنبل وغيره، وضعفها البخاري وهذه الزيادة مطابقة للقرآن، فلو لم يرد بها حديث صحيح لوجب العمل بالقرآن، فإن في قوله: ولهذا كان أعدل الأقوال في القراءة خلف الإمام أن المأموم إذا سمع قراءة الإمام يستمع لها وينصت، لا يقرأ بالفاتحة ولا غيرها، وإذا لم يسمع قراءته بها يقرأ الفاتحة وما زاد، وهذا قول جمهور السلف والخلف، وهو مذهب مالك وأصحابه، وأحمد بن حنبل، وجمهور أصحابه، وهو أحد قولي الشافعي، واختاره طائفة من محققي أصحابه وهو قول محمد بن الحسن وغيره من أصحاب أبي حنيفة. وأما قول طائفة من أهل العلم كأبي حنيفة وأبي يوسف: أنه/لا يقرأ خلف الإمام، لا بالفاتحة ولا غيرها، لا في السر ولا في الجهر؛ فهذا يقابله قول من أوجب قراءة الفاتحة ولو كان يسمع قراءة الإمام، كالقول الآخر للشافعي وهو الجديد، وهو قول البخاري وابن حزم وغيرهما. وفيها قول ثالث: أنه يستحب القراءة بالفاتحة إذا سمع قراءة الإمام، وهذا مروي عن الليث والأوزاعي، وهو اختيار جدي أبي البركات. ولكن أظهر الأقوال قول الجمهور؛ لأن الكتاب والسنة يدلان على وجوب الإنصات على المأموم إذا سمع قراءة الإمام، وقد تنازعوا فيما إذا قرأ المأموم وهو يسمع قراءة الإمام: هل تبطل صلاته؟ على قولين، وقد ذكرهما أبو عبد اللّه بن حامد على وجهين في مذهب أحمد. وقد أجمعوا على أنه فيما زاد على الفاتحة كونه مستمعًا لقراءة إمامه خير من أن يقرأ معه، فعلم أن المستمع يحصل له أفضل مما يحصل للقارئ مع الإمام، وعلى هذا فاستماعه لقراءة إمامه بالفاتحة يحصل له به مقصود القراءة وزيادة تغني عن القراءة معه التي نهي عنها، وهذا خلاف إذا لم يسمع، فإن كونه تاليا لكتاب اللّه يثاب بكل حرف عشر حسنات خيرًا من كونه ساكتًا بلا فائدة، بل يكون عرضة للوسواس وحديث النفس الذي لا ثواب فيه، فقراءة يثاب عليها خير من حديث نفس لا ثواب عليه. وبسط هذا له موضع آخر. /والمقصود هنا التمثيل بالحديث الذي يروي في الصحيح وينازع فيه بعض العلماء، وأنه قد يكون الراجح تارة، وتارة المرجوح، ومثل هذا من موارد الاجتهاد في تصحيح الحديث كموارد الاجتهاد في الأحكام، وأما ما اتفق العلماء على صحته فهو مثل ما اتفق عليه العلماء في الأحكام، وهذا لا يكون إلا صدقا، وجمهور متون الصحيح من هذا الضرب، وعامة هذه المتون تكون مروية عن النبي صلى الله عليه وسلم من عدة وجوه، رواها هذا الصاحب وهذا الصاحب، من غير أن يتواطآ، ومثل هذا يوجب العلم القطعي؛ فإن المحدث إذا روي حديثًا طويلا سمعه ورواه آخر ذكر أنه سمعه وقد علم أنهما لم يتواطآ على وضعه، علم أنه صدق؛ لأنه لو لم يكن صدقا لكان كذبا إما عمدًا وإما خطأ؛ فإن المحدث إذا حدث بخلاف الصدق إما أن يكون متعمدا للكذب، وإما أن يكون مخطئا غالطا. فإذا قدر أنه لم يتعمد الكذب ولم يغلط، لم يكن حديثه إلا صدقًا، والقصة الطويلة يمتنع في العادة أن يتفق الاثنان على وضعها من غير مواطأة منهما، وهذا يوجد كثيرًا في الحديث يرويه أبوهريرة وأبو سعيد، أو أبو هريرة وعائشة، أو أبو هريرة وابن عمر، أو ابن عباس، وقد علم أن أحدهما لم يأخذه من الآخر، مثل حديث التجلي يوم القيامة الطويل؛ حدث به أبوهريرة وأبو سعيد ساكت لا ينكر منه حرفا، بل وافق أبا هريرة عليه جميعه إلا على لفظ واحد في آخره. /وقد يكون النبي صلى الله عليه وسلم حدث به في مجلس وسمعه كل واحد منهما في مجلس، فقال هذا ما سمعه منه في مجلس، وهذا ما سمعه منه في الآخر، وجميعه في حديث الزيادة، واللّه أعلم. وأما قسمة الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف، فهذا أول من عرف أنه قسمه هذه القسمة أبو عيسي الترمذي، ولم تعرف هذه القسمة عن أحد قبله، وقد بين أبو عيسي مراده بذلك، فذكر أن الحسن ما تعددت طرقه ولم يكن فيهم متهم بالكذب، ولم يكن شاذا، وهو دون الصحيح الذي عرفت عدالة ناقليه وضبطهم. وقال: الضعيف الذي عرف أن ناقله متهم بالكذب رديء الحفظ؛ فإنه إذا رواه المجهول خِيفَ أن يكون كاذبا أو سيئ الحفظ. فإذا وافقه آخر لم يأخذ عنه عرف أنه لم يتعمد كذبه، واتفاق الاثنين على لفظ واحد طويل قد يكون ممتنعًا، وقد يكون بعيدًا، ولما كان تجويز اتفاقهما في ذلك ممكنًا نزل عن درجة الصحيح. وقـد أنكـر بعض الناس على الترمـذي هـذه القسمـة وقـالوا: إنـه يقـول: حسن غـريب. والغـريب الذي انفرد بـه الواحـد، والحـديث قـد/ يكون صحيحًا غريبًا كحديث (إنما الأعمـال بالنيات) وحـديث (نهي عن بيع الولاء وهبته) وحديث (دخل مكة وعلى رأسـه المغفـر) فـإن هـذه صحيحـة متلقاة بالقبـول، والأول: لا يعرف ثابتًا عن غـير عمـر، والثاني: لا يعـرف عـن غير ابنـه عبـد اللّـه، والثالث: لا يعرف إلا مـن حـديث الزهـري عـن أنس، ولكن هـؤلاء - الذين طعنـوا على الترمـذي- لم يفهمـوا مـراده في كثير مما قالـه؛ فـإن أهـل الحـديث قـد يقـولون: هـذا الحـديث غـريب، أي: مـن هـذا الوجـه، وقـد يصرحـون بذلك فيقـولون: غـريب مـن هـذا الوجه، فيكون الحـديث عنـدهم صحيحًا معـروفًا مـن طـريق واحـد، فـإذا روي مـن طـريق آخـر كـان غـريبًا من ذلك الوجه، وإن كان المتن صحيحًا معروفًا، فالترمذي إذا قال: حسن غريب، قـد يعني به أنه غـريب مـن ذلك الطـريق؛ ولكن المتن له شواهد صار بها من جملة الحسن. وبعض ما يصححه الترمذي ينازعه غيره فيه، كما قد ينازعونه في بعض ما يضعفه ويحسنه، فقد يضعف حديثًا ويصححه البخاري؛ كحديث ابن مسعود لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ابغني أحجارًا أسْتَنْفِضُ بهن) قال: فأتيته بحجرين ورَوْثَة، قال: فأخذ الحجرين وترك الرَّوْثة وقـال: (إنها رجس) فـإن هـذا قـد اختلف فيه على أبي إسحاق السبيعي، فجعل الترمذي هذا الاختلاف/ علة، ورجح روايته له عن أبي عبيدة عن أبيه وهو لم يسمع من أبيـه، وأمـا البخاري فصححه من طريق أخري؛ لأن أبا إسحاق كان الحديث يكون عنده عن جماعة يرويه عن هذا تارة وعن هذا تارة، كما كان الزهري يروي الحديث تارة عن سعيد بن المسيب، وتارة عن أبي سلمة، وتارة يجمعهما، فمن لا يعرفه فيحدث به تارة عن هذا وتارة عن هذا يظن بعض الناس أن ذلك غلط، وكلاهما صحيح. وهذا باب يطول وصفه. وأما من قبل الترمذي من العلماء فما عرف عنهم هذا التقسيم الثلاثي، لكن كانوا يقسمونه إلى صحيح وضعيف، والضعيف عندهم نوعان: ضعيف ضعفا لا يمتنع العمل به، وهو يشبه الحسن في اصطلاح الترمذي. وضعيف ضعفًا يـوجب تركـه، وهـو الواهـي، وهـذا بمنزلـة مـرض المريض، قـد يكون قـاطعًا بصاحبـه فيجعـل التبـرع مـن الثلث، وقـد لا يكـون قاطعًا بصاحبـه، وهـذا مـوجـود في كـلام الإمـام أحمـد وغـيره؛ ولهذا يقولون: هذا فيه لين، فيه ضعف، وهذا عندهم موجود في الحديث. /ومن العلماء المحدثين أهل الإتقان مثل: شعبة ومالك والثوري ويحيي بن سعيد القَطَّان وعبد الرحمن بن مهدي، هم في غاية الإتقان والحفظ، بخلاف من هو دون هؤلاء، وقد يكون الرجل عندهم ضعيفًا لكثرة الغلط في حديثه، ويكون حديثه إذًا الغالب عليه الصحة لأجل الاعتبار به والاعتضاد به؛ فإن تعدد الطرق وكثرتها يقوي بعضها بعضًا، حتى قد يحصل العلم بها، ولو كان الناقلون فجارًا فساقًا، فكيف إذا كانوا علماء عدولا ولكن كثر في حديثهم الغلط؟! ومثل هذا عبد اللّه بن لَهِيعَة، فإنه من أكابر علماء المسلمين، وكان قاضيًا بمصر، كثير الحديث، لكن احترقت كتبه، فصار يحدث من حفظه، فوقع في حديثه غلط كثير، مع أن الغالب على حديثه الصحة، قال أحمد: قد أكتب حديث الرجل للاعتبار به، مثل: ابن لَهِيعة. وأما من عرف منه أنه يتعمد الكذب، فمنهم من لا يروي عن هذا شيئًا، وهذه طريقة أحمد بن حنبل وغيره، لم يرو في مسنده عمن يعرف أنه يتعمد الكذب، لكن يروي عمن عرف منه الغلط للاعتبار به والاعتضاد. ومن العلماء من كان يسمع حديث من يكذب، ويقول: إنه / يميز بين ما يكذبه وبين ما لا يكذبه، ويذكر عن الثوري أنه كان يأخذ عن الكلبي وينهي عن الأخذ عنه، ويذكر أنه يعرف، ومثل هذا قد يقع لمن كان خبيرًا بشخص إذا حدثه بأشياء يميز بين ما صدق فيه وما كذب فيه بقرائن لا يمكن ضبطها. وخبر الواحد قد يقترن به قرائن تدل على أنه صدق، أو تقترن به القرائن تدل على أنه كذب. فصل في أنواع الرواية وأسماء الأنواع مثل: حدثنا، وأخبرنا، وأنبأنا، وسمعت، وقرأت، والمشافهة والمناولة، والمكاتبة، والإجازة، والوجادة، ونحو ذلك، فنقول: الكلام في شيئين: أحدهما: وأما الشهادة على الإخبارات؛ كالشهادات والإقرارات، ففيها نزاع ليس هذا موضعه، وباب الرواية أوسع، لكن ليس من قصد تحديث غيره بمنزلة من تكلم لنفسه؛ فإن الرجل يتكلم مع نفسه بأشياء ويسترسل في الحديث، فإذا عرف أن الغير يتحمل ذلك تحفظ؛ ولهذا كانوا لا يروون أحاديث المذاكرة بذاك. /وكان الإمام أحمد يذاكر بأشياء من حفظه، فإذا طلب المستمع الرواية أخرج كتابه فحدث من الكتاب. فهنا ثلاث مراتب: أن يقصد استرعاءه الحديث وتحميله ليرويه عنه، وأن يقصد محادثته به لا ليرويه عنه، وألا يقصد إلا التكلم به مع نفسه. ولهذا قلنا: إذا قال الخاطب للولي:أزوجت؟ فقال: نعم. وللزوج: أقبلت؟ فقال: نعم. انعقد النكاح وكان ذلك صريحًا؛ فإن نعم تقوم مقام التكلم بالجملة المستفهم عنها، فإنه إذا قيل لهم: هل وجدتم ما وعد ربكم حقًا؟ واللّه أمركم بذلك؟ وأحدثك فلان بكذا؟ وأزوجت فلانًا بكذا؟ فقال: نعم فهو بمنزلة قوله: وجدت ما وعدني ربي، واللّه أمرني بكذا وكذا، وحدثني فلان بكذا وكذا، وزوجت فلانًا كذا، لكن هذا جواب الاستفهام وذاك خبر مبتدأ، ونعم كلمة مختصرة تغني عن التفصيل. /وقد يقول العارض: حدثك بلا استفهام بل إخبار، فيقول: نعم. ثم من أهل المدينة وغيرهم من يرجح هذا العرض؛ لما فيه من كون المتحمل ضبط الحديث، وأن المحمل يرد عليه ويصححه له، ويذكر هذا عن مالك وغيره. ومنهم من يرجح السماع. وهو يشبه قول أبي حنيفة والشافعي. ومنهم من يجيز فيه أخبرنا وحدثنا، كقول الحجازيين. ومنهم من لا يقول فيه إلا أخبرنا، كقول جماعات، وعن أحمد روايتان. ثم منهم من قال: لا فرق في اللغة وإنما فرق من فرق اصطلاحًا؛ ولهذا يقال في الشهادة المعروضة من الحكم والإقرار والعقود أشهدني بكذا، وقد يقال: الخبر في الأصل عن الأمور الباطنة، ومنه الخبرة بالأشياء، وهو العلم ببواطنها، وفلان من أهل الخبرة بكذا، والخبير بالأمور المطلع على بواطنها، ومنه الخبير. وهو الفلاح الذي يجعل باطن الأرض ظاهرًا، والأرض الخَبَارُ اللينة التي تنقلب، والمخابرة من ذلك. فقول المبلغ: نعم، لم يدل بمجرد ظاهر لفظه على الكلام المعروف وإنما دل بباطن معناه، وهو أن لفظها يدل على موافقة السائل والمخبر، فإذا قال: أحدثك؟ وأنكحت؟ فقال: نعم فهو موافق لقوله: حدثني وأنكحت، وهذه الدلالة حصلت من مجموع لفظ نعم وسؤال السائل، كما أن أسماء الإشارة والمضمرات إنما تعين المشار إليه والظاهر/بلفظها، ولما اقترن بذلك من الدلالة على المشار إليه والظاهر المفسر للمضمر. وأحسن من ذلك أن قوله: حدثني أن فلانًا قال وأخبرني أن فلانًا قال في العرض أحسن من أن يقول: أخبرنا فلان قال: أخبرنا وحدثنا فلان قال: حدثنا، كما أن هذا هو الذي يقال في الشهادة، فيقول: أشهد أن فلان ابن فلان أقر وأنه حكم وأنه وقف، كما فرق طائفة من الحفاظ بين الإجازة وغيرها، فيقولون فيها: أنا فلان أن فلانًا حدثهم، بخلاف السماع. وقد اعتقد طائفة أنه لا فرق بينهما، بل ربما رجحوا [أن] ؛ لأنهم زعموا فيها توكيدًا، وليس كما توهموا، فإن [أن] المفتوحة وما في خبرها بمنزلة المصدر، فإذا قال: حدثني أنه قال فهو في التقدير حدثني بقوله؛ ولهذا اتفق النحاة على أن [إن] المكسورة تكون في موضع الجمل، والمفتوحة في موضع المفردات، فقوله: /وإذا كان مع الفتح هو مصدر فقولك: حدثني بقوله وبخبره لم تذكر فيه لفظ القول والخبر، وإنما عبرت عن جملة لفظه؛ فإنه قول وخبر، فهو مثل قولك: سمعت كلام فلان وخطبة فلان، لم تحك لفظها. وأما إذا قلت: قال: كذا فهو إخبار عن عين قوله؛ ولهذا لا ينبغي أن يوجب اللفظ في هذا أحد، بخلاف الأول فإنه إنما يسوغ على مذهب من يجوز الروايـة بالمعني، فـإذا سمعت لفظـه وقلت: حدثني فلان، قال: حدثني فلان بكذا وكذا فقد أتيت باللفظ، فإنك سمعته يقول: حدثني فلان بكذا، وإذا عرضت عليه فقلت: حـدثك فـلان بكـذا؟ فقال: نعم وقلت: حـدثني أن فـلانًا حـدثـه بكـذا، فأنت صادق على المذهبين؛ لأنك ذكرت أنه حدثك بتحديث فلان إياه بكذا، والتحديث لفظ مجمل ينتظم لذلك، كما أن قوله: نعم لفظ مجمل ينتظم لذلك، فقوله: نعم تحديث لك بأنه حدثه. وأما إذا قلت: حدثني قال: حدثني فأنت لم تسمعه يقول: حدثني وإنما سمعته يقول: نعم وهي معناها، لكن هذا من المعاني المتداولة. وهذا العرض إذا كان المحمل يدري ما يقرأه عليه العارض، كما يدري المقرئ، فأما إذا كان لا يدري فالسماع أجود بلا ريب، كما اتفق عليه المتأخرون؛ لغلبة الفعل على القارئ للحديث دون المقروء عليه، والتفصيل في العرض بين أن يقصد المحمل الإخبار أو لا يقصد، كما تقدم في التحديث والسماع. / فإما إذا كتب إليه بأحاديث معينة وناوله كتابا مجملا ترجحت المكاتبة. ثم المكاتبة يكفي فيها العلم بأنه خطه، ولم ينازع في هذا من نازع في كتاب القاضي إلى القاضي والشهادة بالكتابة، فإنه هناك اختلف الفقهاء هل يفتقر إلى الشهادة على الكتاب؟ وإذا افتقر فهل يفتقر إلى الشهادة على نفس مافي الكتاب؟ أو تكفي الشهادة على الكتاب؟ ومن اشترط الشهادة جعل الاعتماد على الشهود الشاهدين على الحاكم الكاتب، حتى يعمل بالكتاب غير الحاكم المكتوب إليه. ثم المكاتبة هي مع قصد الإخبار بما في الكتاب، ثم إن كان للمكتوب إليه، فقد صَحَّ قوله: كتب إلى أو أراني كتابه، وإن كتب إلى غيره فقرأ هو الكتاب، فهو بمنزلة أن يحدث غيره فيسمع/الخطاب، ولو لم يكاتب أحدًا بل كتب بخطه، فقراءة الخط كسماع اللفظ، وهو الذي يسمونه [وجادة] . وقد تقدم أن المحدث لم يحدث بهذا ولم يرده، وإن كان قد قاله وكتبه، فليس كل ما يقوله المرء ويكتبه يري أن يحدث به ويخبر به غيره، أو أنه يؤخذ عنه. الرابع: الإجازة: فإذا كانت لشيء معين قد عرفه المجيز، فهي كالمناولة وهي: عرض العرض؛ فإن العارض تكلم بالمعروض مفصلا، فقال الشيخ: نعم! والمستجيز قال: أجزت لي أن أحدث بما في هذا الكتاب فقال المجيز: نعم فالفرق بينهما من جهة كونه في العرض سمع الحديث كله، وهنا سمع لفظًا يدل عليه، وقد علم مضمون اللفظ برؤية مافي الكتاب ونحو ذلك، وهذه الإجازة تحديث وإخبار، وما روي عن بعض السلف المدنيين وغيرهم من أنهم كانوا يقولون: الإجازة كالسماع، وأنهم قالوا: حدثنا وأخبرنا وأنبأنا وسمعت واحد، فإنما أرادوا ـ واللّه أعلم ـ هذه الإجازة، مثل من جاء إلى مالك فقال: هذا الموطأ أجزه لي، فأجازه له. فأما المطلقة في المجاز فهي شبه المطلقة في المجاز له؛ فإنه إذا قال: أجزت لك ما صح عندك من أحاديثي، صارت الرواية بذلك موقوفة على أن يعلم أن ذلك من حديثه، فإن علم ذلك من جهته استغني عن الإجازة، وإن عرف ذلك من جهة غيره، فذلك الغير هو الذي حدثه به عنه،/والإجازة لم تعرفه الحديث وتفيده علمه كما عرفه ذلك السماع منه والعرض عليه؛ ولهذا لا يوجد مثل هذه في الشهادات. وأما نظير المكاتبة والمناولة، فقد اختلف الفقهاء في جوازها في الشهادات، لكن قد ذكرت في غير هذا الموضع أن الرواية لها مقصودان: العلم، والسلسلة، فأما العلم فلا يحصل بالإجازة، وأما السلسلة فتحصل بها، كما أن الرجل إذا قرأ القرآن اليوم على شيخ، فهو في العلم بمنزلة من قرأه من خمسمائة سنة، وأما في السلسلة فقراءته على المقرئ القريب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أعلى في السلسلة، وكذلك الأحاديث التي قد تواترت عن مالك، والثوري، وابن علية، كتواتر الموطأ عن مالك، وسنن أبي داود عنه، وصحيح البخاري عنه، لا فرق في العلم والمعرفة بين أن يكون بين البخاري وبين الإنسان واحد أو اثنان؛ لأن الكتاب متواتر عنه، فأما السلسلة فالعلو أشرف من النزول، ففائدة الإجازة المطلقة من جنس فائدة الإسناد العالي بالنسبة إلى النازل إذا لم يفد زيادة في العلم. وهل هذا المقصود دين مستحب؟ هذا يتلقي من الأدلة الشرعية، وقد قال أحمد: طلب الإسناد العالي سُنَّة عمن مضى، كان أصحاب عبد اللّه يرحلون من الكوفة إلى المدينة ليشافهوا الصحابة، فنقول: كلما قَرُبَ الإسناد كان أيسر مؤونة وأقل كلفة وأسهل في الرواية، وإذا كان الحديث قد علمت صحته، وأن/فلانا رواه، وأن ما يروي عنه لاتصال الرواية فالقرب فيها خير من البعد، فهذا فائدة الإجازة. ومناط الأمر أن يفرق بين الإسناد المفيد للصحة والرواية المحصلة للعلم، وبين الإسناد المفيد للرواية والرواية المفيدة للإسناد. واللّه أعلم. / فأجاب: أما المرسل من الحديث: أن يرويه من دون الصحابة ولا يذكر عمن أخذه من الصحابة ويحتمل أنه أخذه من غيرهم. ثم من الناس من لا يسمي مرسلا إلا ما أرسله التابعي، ومنهم من يعد ما أرسله غير التابعي مرسلًا. وكذلك ما يسقط من إسناده رجل، فمنهم من يخصه باسم المنقطع، ومنهم من يدرجه في اسم المرسل، كما أن فيهم من يسمي كل مرسل منقطعًا، وهذا كله سائغ في اللغة. /وأما الغريب: فهو الذي لا يعرف إلا من طريق واحد،ثم قد يكون صحيحًا كحديث: (إنما الأعمال بالنيات)، و(نهيه عن بيع الولاء وهبته)، وحديث (أنه دخل مكة وعلى رأسه المغفر)، فهذه صحاح في البخاري ومسلم، وهي غريبة عند أهل الحديث، فالأول إنما ثبت عن يحيي بن سعيد الأنصاري، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن علقمة بن وقاص الليثي، عن عمر بن الخطاب، والثاني إنما يعرف من حديث عبد اللّه بن دينار، عن ابن عمر، والثالث إنما يعرف من رواية مالك، عن الزهري، عن أنس، ولكن أكثر الغرائب ضعيفة. وأما الحسن في اصطلاح الترمذي فهو: ماروي من وجهين، وليس في رواته من هو متهم بالكذب، ولا هو شاذ مخالف للأحاديث الصحيحة. فهذه الشروط هي التي شرطها الترمذي في الحسن،لكن من الناس من يقول: قد سمي حسنا ماليس كذلك، مثل حديث يقول فيه: حسن غريب؛ فإنه لم يرو إلا من وجه واحد وقد سماه حسنًا، وقد أجيب عنه بأنه قد يكون غريبًا، لم يرو إلا عن تابعي واحد، لكن روي عنه من وجهين فصار حسنًا؛ لتعدد طرقه عن ذلك الشخص، وهو في أصله غريب. وكذلك الصحيح الحسن الغريب قد يكون؛ لأنه روي بإسناد صحيح غريب، ثم روي عن الراوي الأصلي بطريق صحيح وطريق آخر،/فيصير بذلك حسنًا مع أنه صحيح غريب؛ لأن الحسن ما تعددت طرقه وليس فيها متهم، فإن كان صحيحًا من الطريقين فهذا صحيح محض، وإن كان أحد الطريقين لم تعلم صحته فهذا حسن. وقد يكون غريب الإسناد، فلا يعرف بذلك الإسناد إلا من ذلك الوجه، وهو حسن المتن؛ لأن المتن روي من وجهين؛ ولهذا يقول: وفي الباب عن فلان وفلان، فيكون لمعناه شواهد تبين أن متنه حسن وإن كان إسناده غريبًا. وإذا قال مع ذلك: إنه صحيح، فيكون قد ثبت من طريق صحيح وروي من طريق حسن، فاجتمع فيه الصحة والحسن، وقد يكون غريبًا من ذلك الوجه، لا يعرف بذلك الإسناد إلا من ذلك الوجه. وإن كان هو صحيحًا من ذلك الوجه فقد يكون صحيحًا غريبًا، وهذا لا شبهة فيه، وإنما الشبهة في اجتماع الحسن والغريب. وقد تقدم أنه قد يكون غريبا حسنًا، ثم صار حسنًا، وقد يكون حسنًا غريبًا كما ذكر من المعنيين. وأما المتواتر: فالصواب الذي عليه الجمهور: أن المتواتر ليس له عدد محصور، بل إذا حصل العلم عن إخبار المخبرين كان الخبر متواترًا، وكذلك الذي عليه الجمهور أن العلم يختلف باختلاف حال المخبرين به، فرب عدد قليل أفاد خبرهم العلم بما يوجب صدقهم، وأضعافهم لا يفيد خبرهم العلم؛ ولهذا كان الصحيح أن خبر الواحد قد يفيد العلم إذا احتفت به قرائن تفيد العلم. /وعلى هذا، فكثير من متون الصحيحين متواتر اللفظ عند أهل العلم بالحديث، وإن لم يعرف غيرهم أنه متواتر؛ ولهذا كان أكثر متون الصحيحين مما يعلم علماء الحديث علما قطعيًا أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله، تارة لتواتره عندهم، وتارة لتلقي الأمة له بالقبول. وخبر الواحد المتلقي بالقبول يوجب العلم عند جمهور العلماء من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، وهو قول أكثر أصحاب الأشعري؛ كالإسفرائيني وابن فُورَك؛ فإنه، وإن كان في نفسه لا يفيد إلا الظن، لكن لما اقترن به إجماع أهل العلم بالحديث على تلقيه بالتصديق، كان بمنزلة إجماع أهل العلم بالفقه على حكم مستندين في ذلك إلى ظاهر أو قياس أو خبر واحد، فإن ذلك الحكم يصير قطعيًا عند الجمهور وإن كان بدون الإجماع ليس بقطعي؛ لأن الإجماع معصوم، فأهل العلم بالأحكام الشرعية لا يجمعون على تحليل حرام ولا تحريم حلال، كذلك أهل العلم بالحديث لا يجمعون على التصديق بكذب ولا التكذيب بصدق. وتارة يكون علم أحدهم لقرائن تَحْتَفُّ بالأخبار توجب لهم العلم، ومن علم ما علموه حصل له من العلم ماحصل لهم. وأما [شرط البخاري ومسلم] فلهذا رجال يروي عنهم يختص بهم، ولهذا رجال يروي عنهم يختص بهم، وهما مشتركان في رجال آخرين. وهؤلاء الذين اتفقا عليهم عليهم مدار الحديث المتفق عليه. وقد يروي أحدهم عن رجل في المتابعات والشواهد دون الأصل، وقد يروي عنه ما عرف من طريق غيره ولا يروي ما انفرد به، وقد يترك من حديث الثقة ما علم أنه أخطأ فيه، فيظن من لا خبرة له أن كل ما رواه ذلك الشخص يحتج به أصحاب الصحيح وليس الأمر كذلك؛ فإن معرفة علل الحديث علم شريف يعرفه أئمة الفن؛ كيحيي ابن سعيد القَطَّان، وعلي بن المديني، وأحمد بن حنبل، والبخاري صاحب الصحيح، والدارقطني، وغيرهم. وهذه علوم يعرفها أصحابها، واللّه أعلم. /وسئل: فأجاب: العالم قد يقول: ليس بصحيح، أي: هذا القول ضعيف في الدليل، وإن كان قد قال به بعض العلماء، والحديث الضعيف مثل الذي رواه من ليس بثقة؛ إما لسوء حفظه، وإما لعدم عدالته، وإذا كان في المسألة قولان، فإن كان الإنسان يظهر له رجحان أحد القولين وإلا قلد بعض العلماء الذين يعتمد عليهم في بيان أرجح القولين.
|